كيف نجح العرض المسرحي بحي القادسية في تفكيك الغضب العربي وإعادة صياغة العلاقة بين الجمهور والخشبة؟
في لحظة مسرحية استثنائية، استطاع العرض المسرحي بحي القادسية أن يتجاوز الحواجز التقليدية ويضع الجمهور في قلب التجربة، مجسداً نموذجاً معاصراً يُعيد تشكيل مفهوم المسرح في السياق السعودي والعربي. العرض، الذي استمر لثلاثة أيام وجذب أكثر من 450 متفرجاً، لم يكن مجرد عمل فني، بل تمرين حيّ على تفكيك رموز الغضب العربي المتجذّر في الذاكرة الثقافية، وإعادة بناء العلاقة المهجورة بين المتلقي والخشبة.
فما الذي جعل هذا العرض فريداً؟ وما هي أدواته المسرحية التي مزجت بين الفلسفة، والسرد، والسينوغرافيا، والتفاعل الحي؟
ما الذي يميز تجربة حي القادسية المسرحية؟
الطابع الفريد لالعرض المسرحي بحي القادسية يكمن في بنيته المركبة، حيث التقى الشكل بمضمونه في تجربة تفاعلية تعتمد على تقنيات “المسرح داخل المسرح”.
لم يُقدَّم العمل كحكاية تقليدية تبدأ وتنتهي، بل كمختبر فكري حيّ، يتحرك فيه الممثلون بين البروفات والعرض الحقيقي، ليمتزج الواقع بالخيال، والزمن بالزمن.
ما يُلفت النظر أن العرض تجرّأ على فتح ملفات اجتماعية وثقافية حساسة، مثل الغضب كعاطفة جمعية في الوجدان العربي، مستخدمًا شخصية عمرو بن كلثوم رمزًا ثقافيًا يتوارثه الوعي العربي منذ العصر الجاهلي وحتى اليوم، هذه المقاربة عززت من حضور المسرحية كمنصة تأمل جماعي، لا كمجرد عرض ترفيهي.
المسرح التفاعلي وتحطيم الحواجز التقليدية
اختار المخرج جلواح الجلواح خشبة من نوع “ترافيرس”، وهي بنية معمارية للمسرح تضع الجمهور على جانبي الخشبة، بما يكسر الحاجز الرابع ويخلق اتصالاً بصريًا وجسديًا مباشرًا بين الجمهور والممثلين.
هذا التصميم لم يكن شكليًا، بل جزءًا من فلسفة العرض التي ترى في المتلقي طرفًا في المعادلة الدرامية، لا مجرد مستهلك صامت. وقد ساهم هذا التفاعل في تكثيف التوتر المسرحي، وتحويل العرض إلى تجربة شعورية ممتدة، يتورط فيها الجمهور وجدانيًا وفكريًا.
بذلك، لم يكن العرض المسرحي بحي القادسية مجرد أداء أمام جمهور، بل طقسًا تشاركيًا أعاد تعريف حدود المسرح، وعمّق دور المتلقي من المتفرج إلى المتفاعل.
السينوغرافيا والرمزية البصرية
تميز العمل ببنية بصرية كثيفة تعتمد على أطلال قصر عمرو بن هند كديكور رمزي، استُخدم لإعادة إنتاج التاريخ وتفكيكه، الأعمدة، والأرضية المليئة بآثار مملكة الحيرة، لم تكن مجرد خلفية، بل امتدادًا دراميًا للفكرة المركزية: هل ما زلنا نعيش داخل أطلال السلطة والغضب الموروث؟
الإضاءة، والأزياء، والمؤثرات السمعية، كلها جاءت منسجمة مع هذا السؤال المركزي، ما يجعل العرض المسرحي بحي القادسية واحدًا من النماذج القليلة التي استخدمت السينوغرافيا بوصفها خطابًا تعبيريًا متكاملاً.
النص والاشتباك مع الموروث الثقافي
من أبرز ما يميز النص المسرحي الذي كتبه رجا العتيبي، هو توظيفه لمفاهيم النقد الثقافي وتحويلها إلى أدوات درامية، فالموروث لم يُستخدم بوصفه خلفية فلكلورية، بل كأداة تفكيك وتحليل، تُسائل الهوية العربية: هل الغضب جزء من تكويننا؟ هل العنف الرمزي متجذر في ثقافتنا؟
النص يُدرج هذا الاشتباك في حبكة ميتا-مسرحية حيث تتصادم الشخصيات داخل العرض مع فريق الإخراج ذاته، ويُستدعى الجمهور كجزء من الصراع، ما يُنتج حالة من الدهشة والتحفيز العقلي.
ولا يمكن إغفال أن العرض المسرحي بحي القادسية لم يقدّم إجابات جاهزة، بل سلّط الضوء على الأسئلة كموقف فكري وجمالي في آن.
الأداء التمثيلي وتجسيد الغضب بحسّ جمالي
جاء أداء الممثلين، ومنهم معتز العبدالله وبندر الحازمي وغيداء سلام، مشحونًا بطاقة جسدية ونفسية عالية، عبّروا من خلالها عن صراع الأفكار والغضب المكتوم بطريقة غير تقليدية. لم يكن الغضب يُصرخ به، بل يُهمس، يُحملق، ويُؤدى بلغة الجسد.
تميز الأداء بتدرج داخلي يترجم الأبعاد النفسية للشخصيات، وخاصة في اللحظة التي يقتل فيها عمرو بن كلثوم المستشار هيثم، ليتحوّل النص إلى مأساة حيّة تكسر التوقع وتُربك الجمهور.
لقد استطاع العرض المسرحي بحي القادسية أن يحوّل لحظة الانفعال إلى لحظة وعي، وأن يستخدم الأداء الجسدي بوصفه وسيلة للتأمل، لا للصراخ.
المسرح المعاصر السعودي أمام تحول نوعي
العرض يأتي في سياق حراك مسرحي سعودي واضح، تقوده هيئة المسرح والفنون الأدائية من خلال برنامج «ستار».
الدعم المؤسسي فتح الباب أمام تجارب نوعية جريئة تخرج من النمطية وتخاطب القضايا الثقافية والسياسية بلغة فنية.
ما يلفت الانتباه أن العرض المسرحي بحي القادسية لم يكن معزولاً عن هذا السياق، بل يمثّل تجسيدًا ناجحًا له، بتقديمه مسرحًا معاصرًا يستوعب الأسئلة الكبرى، ويتفاعل مع الجمهور، ويتجاوز الشكل التقليدي إلى أنماط ما بعد درامية.
تقنيات ما بعد الدراما وتجديد لغة العرض
اعتمد العرض المسرحي بحي القادسية على عناصر من المسرح ما بعد الدرامي، وهو شكل فني يتمرد على الحبكة التقليدية ويمنح الصورة البصرية واللحظة الأدائية قيمة مركزية. في هذا السياق، جاءت القطع الحوارية أشبه بالتجارب الصوتية، تتحول إلى لقطات ذهنية بصرية.
تم استخدام المؤثرات الضوئية والصوتية بطريقة تعكس التوتر الداخلي للشخصيات، كما أن كسر التسلسل الزمني وتداخل الأزمنة ضمن المسرحية داخل المسرحية أنتج تجربة زمنية مركبة للمشاهد.
ومن الجدير بالذكر أن هذه الأساليب باتت تتكرر في عدد من التجارب المسرحية الخليجية، لكنها وصلت إلى ذروة تماسكها المفاهيمي في العرض المسرحي بحي القادسية، الذي قدّم توازنًا بين الحداثة والخصوصية الثقافية.
الجهات الداعمة وتحولات السياسة الثقافية
لم تكن هذه التجربة ممكنة لولا دعم هيئة المسرح والفنون الأدائية، ضمن برنامج «ستار» الذي وُجه لتطوير الكوادر المسرحية وتمكين التجريب الفني. هذا الدعم أسهم في توفير البنية التحتية، والتدريب، وفرص العروض المباشرة.
التحول في السياسة الثقافية السعودية في السنوات الأخيرة، منح الفن المسرحي مساحة للعودة إلى المشهد، ولكن بشكل أكثر تطورًا من مجرد عروض ترفيهية. فمسرح مثل العرض المسرحي بحي القادسية يمثل مشروعًا فكريًا وفنيًا متكاملاً، لا مجرد نتاج دعم مالي.
ويتوقع أن يشهد البرنامج دعمًا أكبر خلال المواسم القادمة بعد نجاح تجارب مثل هذه، التي تبرز نضج المسرح السعودي في التعبير عن هموم الإنسان العربي بأساليب عصرية.
مقارنة العرض المسرحي بحي القادسية مع عروض عربية مماثلة
يمكن وضع العرض المسرحي بحي القادسية في سياق مقارن مع عروض عربية جريئة ظهرت مؤخرًا في بيروت، تونس، والدار البيضاء، مثل عرض “عَ الغضب” للمخرج التونسي توفيق الجبالي، أو “ضجيج داخلي” للبنانية لينا خوري.
لكن ما يميز التجربة السعودية هو اعتمادها على سردية محلية مدمجة في قالب عالمي. إذ لا تستعير الشكل فقط، بل تُعيد إنتاجه ضمن بنية ثقافية سعودية/عربية، وهذا ما يمنح العرض قوته، لأنه يواجه أسئلة الغضب، التمرد، والهوية من الداخل، لا كمجرد استيراد تقني.
المقارنة تُظهر أن العرض المسرحي بحي القادسية لا يقل في جرأته وأصالته عن عروض أخرى سبقت زمنيًا، ما يثبت أن المسرح السعودي بات حاضنًا لنضج فكري وفني يُحسب في الخارطة المسرحية العربية.
النقاد والجمهور.. تفاعل ودهشة
لقي العرض إشادات واسعة من نقاد محليين وعرب، حيث كتب بعضهم في منصات ثقافية مثل “معازف” و”الجديد” أن العرض “مُرهِق للذهن، لكن غني بالفكرة والاشتباك”، مشيرين إلى أن قوة النص في أنه لا يطمئن الجمهور بل يثير قلقه.
على الجانب الجماهيري، عبّر كثيرون عن انبهارهم بجرأة الأداء وقوة التفاعل. عدد كبير من المتفرجين ذكروا أن العرض المسرحي بحي القادسية غيّر نظرتهم للمسرح، من كونه وسيلة ترفيه، إلى كونه وسيلة للتفكير وإعادة النظر في الذات.
وقد رُصدت مئات التدوينات على تويتر وإنستغرام تحت وسوم “#كانت_غضبة” و”#مسرح_القادسية”، ما يؤكد أن الأثر لم يكن وقتيًّا، بل امتد لخلق نقاشات تفاعلية بعد انتهاء العرض.
مستقبل المسرح السعودي في ضوء التجربة
إن التجربة التي قدمها العرض المسرحي بحي القادسية تفتح الباب أمام ولادة تيار مسرحي جديد في السعودية، لا يستنسخ النموذج الغربي، بل يتفاعل معه ويعيد إنتاجه محليًا. التحدي المقبل يتمثل في الحفاظ على هذه الروح التجريبية دون الوقوع في فخ التكرار أو الشكلانية.
يبدو أن الجمهور السعودي بات أكثر انفتاحًا على عروض فكرية معاصرة، كما أن الجهات الثقافية أصبحت أكثر وعيًا بضرورة الاستثمار في المحتوى، لا فقط في الشكل. ومن المتوقع أن يشهد الموسم المسرحي المقبل بروز أسماء جديدة، ومزيدًا من العروض التي تتعامل مع المسرح كفن متكامل يعكس قلق العصر وأسئلته.
العرض المسرحي بحي القادسية لم يكن تجربة عابرة، بل إشارة إلى أن المسرح السعودي قادم بقوة، لا فقط للعروض، بل لصياغة لغة مسرحية جديدة.
اقرأ ايضاً: ترمب يودع الرياض بإشارة إلى القلب.. تفاعل واسع مع رد الأمير محمد بن سلمان بسيادة الصدر