الخليج اليوم

خدمة ضيوف الرحمن… السباق المقدّس الذي لا يعرف خط نهاية

في كل عام، تتحول المملكة العربية السعودية إلى خلية نحل لا تهدأ، عنوانها العريض هو خدمة ضيوف الرحمن، ذلك الشرف الذي بات لا يُقاس بالوظيفة أو الموقع، بل يتحول إلى هوية وطنية يتوارثها السعوديون جيلًا بعد جيل. هذه الخدمة لم تعد مقتصرة على شعائر تُقام في أماكن مقدسة، بل أصبحت منظومة متكاملة تجمع بين التقنية، الأمن، التوعية، الصحة، والنقل، تحت راية واحدة هي تسهيل أداء الركن الخامس من أركان الإسلام.

ورؤية المملكة 2030 جعلت من خدمة ضيوف الرحمن أحد المحاور الأساسية لتطوير قطاع السياحة الدينية، وتحقيق تحول رقمي ومؤسسي شامل في إدارة الحج والعمرة. المقال التالي يرصد أحدث المستجدات، ويتناول أهم الملامح التنظيمية، والتقنيات الجديدة، والدور الشعبي والإعلامي في إنجاح الموسم، مع التطرق لمحاور لم تكن مطروقة في تغطيات سابقة.

تطوير البنية التحتية لخدمة ضيوف الرحمن

خلال السنوات الخمس الماضية، شهدت المملكة استثمارات هائلة في البنية التحتية المخصصة لخدمة ضيوف الرحمن، حيث تم توسيع المطاف ليستوعب أكثر من 107 آلاف طائف في الساعة، كما جُددت مسارات المشاة بين منى وعرفات ومزدلفة لتُصبح مجهزة بتظليل ورش ذكي لتلطيف الأجواء.

أبرز ما تم تفعيله هذا العام هو النظام الموحد لتفويج الحجاج في الحرم، الذي يعمل بالتكامل مع كاميرات مراقبة مزودة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، تقوم بتحليل الكثافات وتوجيه التدفقات البشرية بطريقة ديناميكية. هذه المبادرة وحدها ساهمت في تقليل زمن الحركة من الجمرات إلى الحرم بنسبة 42% مقارنة بعام 2023.

كما دخل قطار الحرمين كعنصر أساسي في إدارة حركة الحشود، إذ ينقل الحجاج بين مكة والمدينة بسرعة تصل إلى 300 كم/ساعة، مزودًا بخدمات متعددة تتناسب مع كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة. وفي هذا السياق، اعتمدت وزارة النقل خريطة مسارات ذكية تعتمد على نظام الموازنة اللحظية بين الضغط على المحاور المختلفة.

خدمة ضيوف الرحمن

إدماج التقنيات الذكية في خدمة ضيوف الرحمن

في موسم 1446هـ، تم إدماج الذكاء الاصطناعي لأول مرة في إدارة الحشود بشكل متكامل، إذ تعمل غرفة القيادة والسيطرة في مكة والمدينة على تحليل بيانات من أكثر من 8000 كاميرا موزعة على الحرم والمشاعر. وتُرسل التنبيهات مباشرة إلى فرق التدخل السريع الميدانية، التي يتم توجيهها أوتوماتيكيًا باستخدام خرائط حرارية.

وبحسب المركز الوطني للذكاء الاصطناعي، فقد ساهمت هذه التقنية في منع 17 حالة تدافع خلال موسم العمرة في رمضان 2025، وهو ما اعتُبر تحولًا نوعيًا في إدارة الكوارث الجماعية.

كما وفرت الوزارة أكثر من 10 آلاف نقطة واي فاي مجاني، مع دعم تطبيقات مثل “تطبيق اعتمرنا“، الذي يمكّن الحاج من الوصول الفوري إلى خدمات التصريح، النقل، الإرشاد، والبلاغات الأمنية، وهو ما شكّل نقلة حقيقية في تجربة الحاج الرقمية.

الخطاب الإعلامي وتطوير حملات التوعية ضمن خدمة ضيوف الرحمن

الحملة الإعلامية لحج هذا العام تجاوزت المفهوم التقليدي للإعلانات والنشرات، حيث تم بث رسائل توعوية بلغات تتجاوز 50 لغة، بالتعاون مع مؤسسات دولية ومحلية. وتمت ترجمة “تعليمات الحج 2025” إلى لغات الجاليات الكبرى القادمة إلى المملكة.

المثير في هذه الحملة أنها لا تركز فقط على الجانب الديني، بل تسعى إلى إظهار الصورة المتحضرة للتنظيم، من خلال فيديوهات توثق عمليات التفويج، خدمات النقل، الإسعاف، التعامل الإنساني مع كبار السن، وأدوار المتطوعين.

وتعمل فرق من وزارة الإعلام بالتعاون مع هيئة الإذاعة والتلفزيون على بث مباشر مستمر لمواقع المشاعر، بالتنسيق مع وسائل إعلام أجنبية من 28 دولة، لضمان نقل الصورة الصحيحة عن الحج، وتصحيح المفاهيم المغلوطة.

خدمة ضيوف الرحمن... السباق المقدّس الذي لا يعرف خط نهاية

منظومة الأمن والسلامة تحت مظلة خدمة ضيوف الرحمن

تشارك أكثر من 10 جهات أمنية وعسكرية في خطة الحج لهذا العام، يتصدرها الأمن العام والدفاع المدني وقوات الطوارئ الخاصة وتعتمد هذه القوات على منظومة رقمية موحدة تُدار من مركز تنسيق مشترك تابع لوزارة الداخلية، وتعمل بنظام مستجيب لحظي يُقيّم المخاطر ويتفاعل معها فورًا.

أحد الابتكارات الجديدة كان نشر طائرات درون مخصصة لمراقبة درجات الحرارة والرطوبة وتقديم إنذارات مبكرة لحالات الإجهاد الحراري. كما تم تدريب أكثر من 12 ألف متطوع على الإسعافات الأولية والاستجابة السريعة، موزعين على 420 نقطة إسعاف داخل المشاعر.

كما تم تفعيل أنظمة الحماية الاستباقية في خيام منى، عبر تركيب مستشعرات للدخان والغاز، مرتبطة بشبكة تدخل آلي تمنع انتشار الحرائق، ونجحت هذه المنظومة في تقليص زمن الاستجابة لأي طارئ من 8 دقائق إلى أقل من 3 دقائق.

الحراك المجتمعي في خدمة ضيوف الرحمن

من أبرز ملامح موسم الحج أن خدمة ضيوف الرحمن لم تعد حكرًا على الجهات الرسمية، بل أصبحت مساحة مفتوحة لمشاركة المجتمع المحلي، حيث تجاوز عدد المتطوعين 150 ألف متطوع ومتطوعة خلال عام 2025، وفق بيانات مركز التطوع السعودي.

وتتراوح مشاركاتهم بين الإرشاد اللغوي، توزيع المياه، مساعدة كبار السن، وحتى الترجمة الفورية عند مراكز الدعم الأمني. كما أطلقت عدة جامعات سعودية مبادرات بحثية لقياس تجربة الحجاج ميدانيًا، بهدف تقديم تحسينات واقعية في الأعوام القادمة.

وهذا الحضور المجتمعي يعزز القيمة المعنوية لخدمة ضيوف الرحمن، التي باتت تتجاوز مفهوم الخدمة إلى روح الانتماء والبذل، وهو ما يراه مراقبون عالميون أحد أسرار نجاح تنظيم الحج على مدار العقود الأخيرة.

المخرجات والتطلعات المستقبلية لخدمة ضيوف الرحمن

تُظهر كل هذه التحولات أن المملكة لا تكتفي بإدارة موسمية للحج، بل تعمل على تأسيس نموذج عالمي لإدارة الحشود الدينية، يرتكز على التقنية، الشفافية، التقييم اللحظي، وروح الخدمة.

ورغم أن موسم الحج لا يزال محكومًا بالتحديات، خصوصًا مع الأعداد المتزايدة، وتغير أنماط السفر والإقامة، إلا أن المملكة نجحت في الحفاظ على جوهر التنظيم مع فتح آفاق جديدة نحو التحسين الدائم.

وفي هذا السياق، تأتي “خطبة يوم عرفة” كمحطة روحانية محورية، يتم الإعداد لها بمنتهى الدقة والاحترام، بوصفها لحظة تجسيد لروحانية المناسك وتوحيد الشعور الجمعي للمسلمين.

وبين خطط الطوارئ المتقدمة، والنقل الذكي، والبنية الرقمية، يظل السباق لخدمة ضيوف الرحمن هو السباق المقدس الذي لا يعرف خط نهاية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!