رئيس وزراء إسبانيا يؤيد الاتفاق مع أمريكا وسط تحفظات تثير الجدل
في لحظة تشهد فيها الساحة الأوروبية تجاذباً اقتصادياً وسياسياً واسعاً، خرج رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز بتصريح وصفه كثيرون بأنه يحمل تناقضاً صارخاً بين الموقف السياسي والموقف الشخصي، حين أكد دعمه لـ الاتفاق مع أمريكا، لكنه أرفق ذلك بجملة أثارت كثيراً من التساؤلات: “أؤيد الاتفاق، ولكن بدون أي حماسة”. هذا الإعلان لم يمر مرور الكرام، خاصة وأن بنود الاتفاق تحتوي على عناصر مالية وعسكرية استراتيجية قد تغيّر ميزان العلاقات عبر الأطلسي.
الاتفاقية التي جرى توقيعها بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لا تُعد فقط صفقة تجارية، بل خارطة نفوذ جديد في ملفات الغاز، المعدات العسكرية، والاستثمارات العابرة للقارات. ووسط هذه الأبعاد، جاء موقف إسبانيا – إحدى القوى المتوسطة داخل أوروبا – كاشفاً لتوتر داخلي بين الواقع الاقتصادي والتوجّه السيادي.
لكن ماذا يتضمن الاتفاق مع أمريكا بالتفصيل؟ ولماذا أبدى سانشيز تحفظه رغم إعلانه الدعم؟ وهل تحمل الصفقة بين السطور ما يشير إلى توجّه أوروبي جديد نحو واشنطن؟ كل هذه الأسئلة نناقشها في هذا التقرير الموسّع المدعّم بالأرقام والتحليل.
محتوى تجاري أم تحالف استراتيجي؟
أثار الاتفاق مع أمريكا موجة نقاش واسعة حول طبيعته وأهدافه الفعلية، إذ لم يقتصر على الجوانب الجمركية فقط، بل شمل تفاهمات استراتيجية على مستويات الطاقة والدفاع والرقمنة. النصوص الرسمية للاتفاق تنص على:
البند | التفاصيل |
---|---|
الصادرات الأوروبية | تُفرض عليها رسوم جمركية موحّدة بنسبة 15% على السيارات والمنتجات الصناعية |
الرقائق والأدوية | قرار منفصل يُصدر خلال أسبوعين من التوقيع |
قطاع الطيران والمواد الكيماوية | إعفاء كامل من الرسوم الجمركية |
الصلب والألمنيوم | تحتفظ أمريكا برسوم بنسبة 50%، مع وعد بتخفيفها لاحقًا ضمن نظام الحصص |
الغاز | الاتحاد الأوروبي يتعهّد بشراء غاز أمريكي بقيمة 750 مليار دولار خلال 3 سنوات |
المعدات العسكرية | اتفاقية شراء كميات ضخمة من الأسلحة الأمريكية |
الاستثمارات الأوروبية | تعهد بضخ 600 مليار دولار داخل الولايات المتحدة حتى 2028 |
من الواضح أن هذه البنود تمنح الولايات المتحدة أفضلية واضحة، خاصة في سوق الغاز الذي يعاني من اضطرابات بعد حرب أوكرانيا. وقد اعتبر مراقبون أن التزام الاتحاد الأوروبي بهذه الشروط يحمل أبعاداً تتجاوز الاقتصاد، ويمثل نوعاً من التموقع السياسي في صف الإدارة الأمريكية الحالية، وربما المستقبلية.
ومع أن الاتفاق يمنح الشركات الأوروبية تسهيلات جمركية محدودة، إلا أن معظم الامتيازات تميل لصالح واشنطن، خصوصًا في قطاعات الدفاع والطاقة، ما يجعل كثيرًا من الأصوات الأوروبية، حتى من داخل الحكومات، تعبر عن تحفظات جدية.
اقرأ أيضًا: محادثات نارية بين أمريكا والصين لتمديد هدنة الحرب التجارية وتفادي الانفجار الاقتصادي!
بين الواقعية الاقتصادية والتحفظ السيادي
لم تكن إسبانيا الدولة الوحيدة التي عبّرت عن موقف “بارد” تجاه الاتفاق مع أمريكا، لكنها كانت الأوضح في تعبيرها. تصريحات بيدرو سانشيز، الذي قال إنه “يدعم الاتفاق دون أي حماسة”، حملت أكثر من رسالة في طيّاتها.
في الداخل الإسباني، يواجه سانشيز ضغوطاً من دوائر اليسار المعارض للهيمنة الأمريكية، ومن مجتمع الأعمال المتخوّف من زيادة الواردات الأمريكية وتأثيرها على الصناعة المحلية. وفي الوقت نفسه، يحرص على إبقاء إسبانيا ضمن توافق أوروبي مشترك لا يعزل مدريد عن قرار الاتحاد المركزي.
ويرى خبراء أن تصريحات سانشيز تشير إلى توازن صعب بين المصالح الوطنية والرغبة في عدم الخروج عن الصف الأوروبي. فإسبانيا تحتاج فعلاً لتعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة في ملف الطاقة، لكنها لا ترغب بأن تظهر كمنخرطة بالكامل في مشروع أمريكي قد يُعتبر مفرط الهيمنة.
الأهم من ذلك، أن الاتفاق مع أمريكا يتزامن مع فترة اقتصادية حرجة داخل إسبانيا، مع تزايد التضخم وتقلّص الناتج الصناعي. وبالتالي، فإن أي بنود تؤثر على التصدير أو تُدخل واردات تنافس الصناعة الإسبانية قد تضر بالاقتصاد المحلي على المدى القريب، وهو ما يُفسّر “التحفظ دون معارضة” في خطاب رئيس الوزراء.
هل يخدم أوروبا فعلاً؟
لطالما رُوّج للعلاقات الأوروبية الأمريكية على أنها “شراكة استراتيجية”، لكن تفاصيل الاتفاق مع أمريكا الأخير تشير إلى تباين في المصالح. فمن الناحية الظاهرية، يبدو الاتفاق خطوة نحو تعزيز التجارة والاستثمار، إلا أن التوزيع الفعلي للمكاسب يطرح تساؤلات حقيقية حول مدى استفادة أوروبا، مقارنة بالمكاسب الضخمة التي ستجنيها الولايات المتحدة.
أولى الإشكاليات تكمن في استمرار فرض رسوم بنسبة 50% على صادرات الصلب والألمنيوم الأوروبية، وهي سلع استراتيجية لكثير من الاقتصادات الأوروبية مثل ألمانيا وإسبانيا. ورغم تعهّد واشنطن بتخفيض هذه الرسوم لاحقًا، لم تحدد جدولًا زمنيًا ملزمًا، ما يجعل الاتفاق مفتوحًا على التأجيل والمماطلة.
ثانيًا، بند الغاز الأمريكي – الذي تعهّد الاتحاد الأوروبي بشرائه بـ750 مليار دولار – يُنظر إليه كبديل للغاز الروسي، لكنه يحمّل أوروبا التزامات ضخمة في وقت يبحث فيه الاتحاد عن مصادر طاقة مستدامة أقل تكلفة. واللافت أن هذا البند جاء دون تخفيضات سعرية كبيرة، ما يعني أن أوروبا تشتري الطاقة بثمن أعلى مقابل الأمن السياسي.
ثالثًا، التزام الاتحاد الأوروبي باستثمار 600 مليار دولار داخل الاقتصاد الأمريكي خلال فترة رئاسة ترامب الثانية – وهو بند فريد من نوعه – يضع أوروبا في موقع الداعم للاقتصاد الأمريكي بدلًا من التركيز على تعزيز صناعاتها المحلية، وهو ما وصفه اقتصاديون بأنه “خروج عن مبدأ التوازن في العلاقات الدولية”.
دلالات سياسية عميقة وراء الاتفاق
لا يمكن قراءة الاتفاق مع أمريكا بمعزل عن السياق السياسي العام. فالإدارة الأمريكية تسعى لتأمين أسواق طويلة الأمد لصناعاتها، خصوصًا مع تقلبات الاقتصاد الصيني والصراعات الجيوسياسية في آسيا. وبالتالي، تأتي هذه الاتفاقية كجزء من استراتيجية أمريكية لتعزيز وجودها الاقتصادي في أوروبا، مقابل دور أوروبي أكبر في دعم السياسة الأمريكية عالميًا.
أما داخل أوروبا، فإن الاتفاق يُعتبر مؤشرًا على مدى انقسام الدول الأعضاء بين تيار مؤيد للاندماج العابر للأطلسي وتيار آخر متحفظ يخشى من تآكل السيادة الاقتصادية والسياسية. ومع بقاء بعض الدول – مثل فرنسا والنمسا – في موقف المراقب الحذر، فإن تصريحات سانشيز تمثل نموذجًا للغة دبلوماسية تميل إلى الحياد الموزون.
اللافت أن الاتفاق لم يمر عبر تصويت مباشر داخل البرلمان الأوروبي، وهو ما أثار انتقادات من بعض النواب الأوروبيين الذين اعتبروا الصفقة “تمريرًا فوق المؤسسات”، ما يطرح أسئلة حول شفافية اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبي، خاصة في الملفات ذات الطابع السيادي.
في النهاية، يمكن القول إن الاتفاق مع أمريكا لا يعكس فقط إرادة اقتصادية، بل يصوغ خريطة تحالفات سياسية متشابكة تؤسس لمرحلة جديدة في العلاقات الأوروبية الأمريكية، وقد تكون لها تبعات بعيدة المدى.
الآثار المحتملة على الاقتصاد الإسباني
بالنسبة لإسبانيا، فإن التزامها بتنفيذ بنود الاتفاق مع أمريكا قد يحمل انعكاسات اقتصادية مزدوجة. فمن جهة، يُتوقّع أن تستفيد من فتح الأسواق أمام بعض صادراتها، خصوصًا في مجال الصناعات الزراعية والنسيج، والتي قد تُصدّر بأسعار تنافسية إلى الولايات المتحدة.
ومن جهة أخرى، فإن دخول منتجات أمريكية معفاة من الرسوم – خصوصًا المعدات العسكرية والرقائق – قد يضغط على الصناعة المحلية ويزيد من العجز التجاري، خاصة إذا لم تقم الحكومة الإسبانية بوضع سياسات حمائية متوازنة.
كما أن شراء الغاز الأمريكي بأسعار مرتفعة سيفرض ضغطًا إضافيًا على فاتورة الطاقة الإسبانية، خاصة في ظل تقلبات أسعار النفط العالمية. ويتزامن هذا مع تحديات داخلية تواجهها الحكومة الإسبانية في تمويل قطاعي الصحة والتعليم، مما يجعل الإنفاق على الطاقة والدفاع موضع جدل داخلي واسع.
وتُطرح تساؤلات عن قدرة مدريد على تكييف الاقتصاد المحلي مع التحولات القادمة، خاصة وأن الاستثمارات الأوروبية في أمريكا قد تستنزف رؤوس أموال كان من الممكن ضخها في مشاريع داخلية لدعم الاقتصاد المحلي.
دعم فاتر.. وشكوك استراتيجية
في ضوء المعطيات، يتّضح أن موقف رئيس الوزراء الإسباني لم يكن مجرد تحفظ شخصي، بل قراءة سياسية واقتصادية لمآلات الاتفاق مع أمريكا. فبينما تظهر الصفقة في ظاهرها كخطوة نحو تعزيز العلاقات عبر الأطلسي، تحمل في طياتها أعباءً اقتصادية وسياسية قد لا تكون في صالح جميع الدول الأوروبية بنفس القدر.
تصريحات سانشيز أعادت تسليط الضوء على التفاوت داخل الاتحاد الأوروبي في كيفية التعامل مع أمريكا، وعلى الحاجة الماسة لصياغة سياسة تجارية موحّدة تحقق توازنًا بين الانفتاح والتحصين.
وفي الوقت الذي يراهن فيه البعض على نجاح الاتفاق في خلق شراكة استراتيجية طويلة الأمد، يرى آخرون أن أوروبا قد تجد نفسها في موقع التابع لا الشريك، ما لم يُعاد النظر في بنود الصفقة وتُصاغ آلية متابعة أكثر شفافية وعدالة.
اقرأ أيضًا: هواوي تعود بقوة وتسيطر على سوق الهواتف الذكية في الصين من جديد